بخطوة الى الامام واخرى الى الخلف انطلقت مباحثات جنيف 3 المنتظرة بين طرفي الازمة السورية برعاية أممية رسمياً وأمريكية – روسية فعلياً وبمشاركة اطراف اقليمية ودولية اخرى وفق ما افرزته لقاءات فيينا اواخر العام الماضي . وتجسيداً لحجم المعضلة والتعقيدات التي بلغت ذروتها ، كانت صورة (الدعوات) التي وجهها الوسيط الاممي ستيفان دي ميستورا الى الاطراف المعنية بالمفاوضات وبالاخص تلك المتعلقة بوفد المعارضة السورية التي تجاذب اطرافها المتعددون خيوط الاسبقية والاحقية بالتمثيل ، تعبيرا واضحا عن حجم التناقضات والاختلافات التي وصلت اليها الاحوال على الارض وهو ما يعتبر محصلة طبيعية لصراع سيطوي بعد حين عامه الخامس . ورغم رعايتهما المشتركة حرص الطرفان الروسي والامريكي على وجود الاطراف المؤيدة لهما من المعارضة في الوفد المفاوض وبالطبع وفد النظام في دمشق والذي لا بد انه راهن على فشل المحادثات قبل بدايتها بعد ان اصرت المعارضة على وقف اطلاق النار وفك حصار المدن واطلاق سراح المعتقلين قبل اعلان الموافقة على الحضور لولا (الضمانات) التي اعلنت انها تلقتها من (أطراف صديقة وشقيقة) حول تنفيذ تلك الشروط . ان هذه الصور وغيرها الكثير مع ما كل ما حملته السنوات الماضية منذ اندلاع الاحتجاجات في اذار (مارس) 2011 توضح لنا ان كل تلك الاطراف قد وصلت الى مرحلة متقدمة جدا من فقدان سيطرتها على نفسها وقرارها الذاتي ، فكلا طرفي الصراع راهن منذ البداية على عامل الدعم الخارجي بدل البحث داخليا عن حل ينقذ البلاد من الخراب الذي حل بها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا . ان نظرة على واقع سوريا اليوم عشية بدء المفاوضات ترسم صورة مخيفة للوضع الذي بلغ السوء فيه مديات لا يمكن تخيلها ، ناهيك عن الجانب السياسي حيث لم يعد لاي طرف من الاطراف المتصارعة سيادة كاملة على جزء من الارض السورية او اجواءها او مياهها الاقليمية ، فمن تصارع لطيران روسيا وامريكا وغيرها في السماء الى معارك طاحنة طالت اضرارها البشر والحجر على الارض ، مع اسوء موجات النزوح التي بلغت نسبتها اكثر من نصف سكان سوريا منتشرين في دول الجوار والاقليم والعالم ، وتدني مستويات الخدمات من كهرباء وماء وغذاء وتفكك الاقتصاد السوري وبنيته التحتية وهبوط قيمة العملة الوطنية التي اصبحت لا تكاد تذكر امام العملات الاخرى . بهذه وغيرها من الصور الموغلة في سوادها ، ضاقت ارض سوريا بابنائها على ما يبدو ، حتى انهم لم يعد بامكانهم التكلم فيما بينهم الا في اصقاع العالم بين روسيا وفيينا والرياض وجنيف والقاهرة واسطنبول وباريس وغيرها ، وكأن سوريا قد انقسمت الى نوعين من النازحين : سياسيين ومدنيين ! واضحت اقدم عاصمة في العالم خاوية من اهلها ومعالم الحياة فيها ، ولم يبق في مدن سوريا مكان سوى للقتل والدمار ، غابة مقفرّة تنعق فيها الغربان ويعلو فيها فحيح الافاعي ، وطناً لشذّاذ الآفاق من جميع انحاء العالم يزيّنون لانفسهم ولاشباههم صورا مزيفة عن الجهاد والاستشهاد في سبيل الله !! ..وبهذا تصبح كل الاشياء مباحة ومملوكة بقوة السلاح وبأسه ، الارض والعِرض والحضارة والتاريخ .. سُبِيَت معالم سوريا التاريخية كما سُبِيَت نساؤها وعاثت الاهواء والنرجسية والتعنت الاعمى فسادا بكل شيئ وزاد الطين بلّة تدافع الاطراف الاقليمية والدولية عربية واجنبية لتنفث سمومها وتبذر باسراف منقطع النظير بذور الفرقة والطائفية الخبيثة لتتشارك جميعها في مجزرة سفك الدم السوري الذي تعدى بكثير حاجز ال100 الف قتيل .. تلك الاطراف التي رأت في الازمة السورية فرصة ذهبية لاثبات الوجود وغرس الاقدام بعمق نفوذا وسطوة للحاضر والمستقبل . على وقع كل ذلك تاتي مفاوضات جنيف بنسختها الثالثة لتكون المفاوضات المفترضة لحل كل تلك المشاكل فاذا بها تصبح هي نفسها مشكلة تبحث عن حل كي تبحث فيما بعد عن حل للمشاكل التي من المفترض انها وُجدت لحلها !! .. تأتي مفاوضات جنيف كي تكشف حجم الانفصام الواضح بين النازحين السياسيين وبين وطن نزحت منه الحياة بكل اشكالها . وبينما نار الحرب قد أتت على كل ما يبعث على الحياة فأصبح (هشيما تذروه الرياح) كما يقول القران الكريم ، راح النازحون يتصارعون على الكلمات والجمل والمصطلحات ليعيدوا الى الاذهان جدل البلاط البيزنطي قبل اكثر من سبعة قرون حين كان رهبانه يتبادلون الجدل الديني حول الموت والحياة والحساب والعقاب فيما عاصمتهم القسطنطينية على وشك السقوط في يد الجيش العثماني آنذاك ! .. ولأن التاريخ يكرر نفسه (بغباء) أحيانا ، تقمص (السياسيون) في سوريا دور رهبان بيزنطة ، وارتضوا لانفسهم ان يهجروا وطنهم المدمر كي يتباحثوا حول امور لا تكاد تصدق : حكومة الوحدة ام الهيئة الانتقالية ، دستور مؤقت ، انتخابات ، مصير الاسد؟؟! ….الخ . يا لها من مناقشات عكست انفصام اصحابها عن الواقع ، ويا لها من سياسات حمقاء تزرع لعشرات السنين ارتباط مصير الاوطان بمصير الاشخاص وفق منهجية تخريبية تضمن بقاء اولئك الاشخاص اطول فترة ممكنة في الحكم الذي وثبوا اليه على حين غفلة من الزمن والتاريخ والشعب ، ويا لها من نخبة سياسية تتصارع على حضور هذا وتغييب ذاك ، وتزمت اهوج وتعصب اعمى وتخرصات طائفية وعنصرية بغيضة ومدمرة .. مما لا شك فيه ان الخاسر الوحيد من ازمات كهذه هو الوطن بشعبه وبنيته التحتية ومقدراته واستقلاله الوطني ، وللاسف الشديد فان الحل الذي يُرتجى لتخليص سوريا من محنتها يبقى بعيد المنال طالما ان الاطراف المتصارعة لم تشعر بعد بالاعياء وثقل التكلفة المترتبة على الصراع واستمراريته ، وعدم وجود قوة ضغط حقيقية من قبل الاطراف الراعية والداعمة تجبرها على وضع نهاية للصراع العبثي ، والتي ستُراعي حتما مصالحها وتستميت لضمان أي مكسب ممكن ، وبالتأكيد فان سوريا وطنا وشعبا ومستقبلا ستكون في ذيل قائمة الكاسبين ، وأول الخاسرين من الصراع بداية ونهاية .